حصار قطر وبيع الجزيرتين.. التطبيق العملي لصفقة القرن
ليست مصادفة أن يلجأ حكام السعودية والامارات والبحرين في ذكرى النكسة بقطع علاقاتهم مع جارتهم المسلمة وشقيقتهم الصغرى قطر بتهمة دعم وتمويل الارهاب(تلك التهمة الفضفاضة)، بدلاً من قطعها مع العدو الصهيوني أول ارهابي في المنطقة(حليف اليوم)، لتكون النكسة نكستين، وهي مفارقة مثيرة ومخزية تبعث على الأسى والتأمل، ذلك أن اختيار دول الخليج الثلاث،الذكرى الخمسين لنكسة 5 يونيه/حزيران لإعلان مقاطعتهم لدولة قطر، له دلالة مخزية مفادها أن العدو الذي حاربناه منذ نصف قرن لم يعد عدوا اليوم بل صار حليفاً وشريكاً وربما كفيلاً ،وتم استبداله بالشقيقة قطر بهدف التدشين لصفقة القرن التي بشر بها السيسي خلال لقاءه الرئيس الأمريكي ترامب في البيت الأبيض مطلع إبريل/نيسان الماضي على ما يبدو، وتضييق الخناق على حركة المقاومة عبر تهجير قسري لفلسطينيي غزة باتجاه سيناء كخطة توطين كوطن بديل للفلسطينيين تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، ولعل التفريط في تيران وصنافير يخدم ذلك المخطط لأنه يجعل لإسرائيل اليد العليا أمنياً في مضيق تيران بأن يصبح مياها دولية بعد أن كان مياها مصرية خالصة ، ومن ثم تتم السيطرة على سيناء وتهديد قناة السويس عبر مشاريع بديلة.
معاقبة قطر على مواقفها بأثر رجعي
ما حدث مع دولة قطر ليس وليد اللحظة ، ولم يكن قراراً عفوياً أو انفعالياً بقدر ما هو خلاف عميق بين مشروعين متقاطعين، تجلى في سنوات الربيع العربي التي انحازت قطر خلالها إلى حق الشعوب في الحرية وتقرير مصيرها والتي ترزح تحت وطأة التسلط والاستبداد على مدى عقود طويلة، ما يعني أن القطيعة مع قطر ليس عقاباً لها على مواقفها ، وفرض الوصاية على قرارها وسيادتها فحسب، وإنما تحدياً لموجة التغيير التي حلمت بها شعوب المنطقة عند اندلاع شرارة الربيع العربي في تونس نهاية عام 2010 ، والتي نقلت نبضها قناة الجزيرة التي يريدون إسكاتها أو تحييدها ،ذلك أن تهمة الارهاب مثيرة للسخرية ودليل على الافلاس التام ، لاسيما بعد وضع شخصية بقيمة وقامة العلامة يوسف القرضاوي على لائحة الشخصيات الارهابية، بينما كان يتم استقباله كالملوك في ضيافة الملك السعودي الراحل”عبد الله “ثم الملك الحالي” سلمان “العام الماضي بحضور مفتي عام المملكة، فضلاً عن أن كتب الشيخ تملأ جنبات مكتبات الجامعات السعودية.
التمهيد للقطيعة مع قطر
قطع العلاقات مع قطر وحصارها براً وجواً وبحراً كما لو كانت عدواً ، تم التمهيد له بتصريحات مفبركة لأمير قطر في 24 مايو الماضي على إثر قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية الرسمية ، ثم حملة إعلامية مسعورة ، قادتها وسائل اعلام سعودية وإماراتية ومصرية واصلت بث التصريحات المفبركة لساعات طويلة رغم نفي الجانب القطري، تبعه حجب أكثر من 20 موقعاً إليكترونياً أهمها” الجزيرة نت”، ووصلت قائمة الحجب لأكثر من 70 موقعاً حتى كتابة هذه السطور، ما يؤكد أن الحملة مبيتة ومنذ أسابيع وربما شهور، بل ويذهب البعض أنها منذ أزمة سحب السفراء في مارس/ أزار من عام 2014، والتي نجحت دولة الكويت في احتواءها.
تناقض الموقف الأمريكي
ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فلا يمكن فصل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للخليج مايو/أيار الماضي عن ملابسات الأزمة، وحصوله على صفقات بمليارات الدولارات من السعودية وحدها(أكثر من 360 مليار دولار فيما سمي بجزية القرن)، لاسيما وأن قطر رغم علاقاتها الاستراتيجية بأمريكا وحضورها قمة الرياض، إلا أنها كانت أقل دول الخليج تماهياً مع المطالب أو بالأحرى الإملاءات الأمريكية، سيما فيما يخص علاقتها بحركة حماس، أو دفع ما يسمى ب”الجزية” سالفة الذكر، ولهذا تتم تصفية الحسابات معها بأثر رجعي عقاباً لها على مواقفها المستقلة نسبياً، والتي من أبرزها دعم واحتضان حركة المقاومة الاسلامية حماس في الدوحة وهو ما يزعج الحلفاء الإسرائيليين بطبيعة الحال.
أكذوبة دعم قطر لإيران
أما عن ذريعة دعم النظام القطري لإيران، فأقل ما يُقال عنها أنها مضحكة، لأن الامارات ثاني أكبر شريك تجاري لإيران وبينهما استثمارات بمليارات الدولارات، حيث تستحوذ على 80% من حجم التبادل التجاري بين إيران والخليج ، والرحلات الجوية(200 رحلة طيران أسبوعية) لا نقطع بين البلدين، فضلاً عن أن دولة الكويت قد استقبلت الرئيس الإيراني حسن روحاني بحفاوة بالغة(فبراير/شباط) الماضي، حيث أن العلاقات القوية بين الجانبين ليست خافية على أحد، ولم يتهمها أحد برعاية الارهاب، حيث أن العلاقة تتم في إطار المصالح السياسية الخاصة بكل دولة.
مصالح إسرائيل من قرار المقاطعة
ويبدو أن المخطط أكبر من مجرد مقاطعة أو حصار دولة ، ذلك أن” الدوحة ” صارت عنواناً كبيراً لما يحدث خلف الكواليس من ترتيبات تتم بموجبها تسليم المنطقة”تسليم مفتاح” لإسرائيل إن صح التعبير، ذلك أن ملابسات وتبعات أزمة الأشقاء تصب في المقام الأول بلا شك في المصلحة الصهيونية، حيث هللت وسائل اعلام الكيان وكبار مسؤوليه بخطوة المقاطعة.
ففي أول رد إسرائيلي رسمي، اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي”أفيغدور ليبرمان” أمام الكنيست، أن قرار عدد من الدول العربية قطع علاقاتها مع قطر يمثل فرصة ممتازة لتوحيد الجهود مع إسرائيل في محاربة الإرهاب،مثمناً إدراك العرب بأن الخطر عليهم هو الإرهاب وليس اسرائيل!، ونشر السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن ونائب رئيس الحكومة للشؤون الدبلوماسية”مايكل أورين” على تويتر قائلا:”خط جديد يرسم في رمل الشرق الأوسط ، لم تعد إسرائيل ضد العرب بعد اليوم، بل إسرائيل والعرب ضد الإرهاب الممول من قطر”.
ومما استرعي الانتباه أيضاً مقالاً كاشفاً لعمق الأزمة مع قطر بصحيفة”جيروزاليم بوست” الإسرائيلية تحت عنوان “خمسة أسباب تجعل إسرائيل معنية بالأزمة القطرية”، ما يهمنا في هذا الصدد سببين، الأول:التمهيد للتقارب بين إسرائيل من جهة والسعودية ودول الخليج الأخرى ومصر من جهة أخرى(بحسب المقال)، تمهيداً لتطبيع عربي شامل مع الكيان الإسرائيلي دون شروط في إطار التطبيق العملي لصفقة القرن.
أما الثاني:الأزمة تثبت عودة النفوذ الأمريكي إلى المنطقة(حسبما جاء في المقال)، وهو ما يؤكد على حضور الدور الأمريكي في الأزمة منذ البداية ولو بإعطاء الضوء الأخضر على أقل تقدير، بغض النظرعن إسداء الإدارة الأمريكية نصائح التهدئة والتأكيد على دور قطر كشريك فاعل في المنطقة ومحاربة الارهاب، ذلك أنها تصريحات روتينية دبلوماسية مكررة وماكرة في كل أزمة كموقف وسط بين القبول والادانة يضمن بها الجانب الامريكي رضا طرفي الأزمة ، ولنا عدة سوابق ناورت من خلالها الادارة الأمريكية بالتصريحات الخادعة، فلها سوابق في هذا الصدد، حيث دفعت في السابق باتجاه توريط العراق في غزو الكويت عام 1990، ثم أدانته فيما بعد وقادت تحالف دولي لإسقاط العراق ، وعندما وقفت إلى جوار حليفها مبارك مع اندلاع ثورة 25 يناير، ثم تراجعت وأيدت غضبة الشارع ، وكذلك انقلاب 3 يوليه في مصر من تسميته بالانقلاب، ثم التعاون معه ودعمه في نفس الوقت، وأخيراً التأييد المبطن لانقلاب تركيا الفاشل صيف العام الماضي ثم التراجع بعد فشله.
أوراق ضغط كل طرف للإجهاز على الآخر
يبدو أن السعودية والامارات تستخدمان سلاح الوفرة المالية لاستقطاب دولاً عربية مأزومة إقتصادياً للتأثير على قرارها لتفعيل المقاطعة، كما حدث مع شرق ليبيا واليمن وموريتانيا وموريشيوس وجزر المالديف، فضلا عن الأردن بتخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي، ومازالت تُمارس الضغوط حتى كتابة هذه السطور على دول نأت بنفسها عن حالة الاستقطاب وآثرت الحياد وهي(المغرب والجزائر وتونس ولبنان والصومال)، بينما رفضت كل من الكويت وعمان قطع العلاقات، ما يخفف من وطأة الحصار نسبياً ، فضلاً عن امتلاكها(أي قطر) صندوق سيادي استثماري يديره”جهاز قطر للاستثمار” يقدر بحوالي 335 مليار دولار موزعة في عدة جهات خارجية(أمريكا وروسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والصين والهند وسنغافورة وماليزيا وأمريكا اللاتينية)، ما يتيح لها المناورة السياسية وخلق أحلاف دولية ترغب في الحل وعدم تصعيد الأزمة.
كل الخيارات مفتوحة بما فيها الانقلاب العسكري
تبقى كل الخيارات مفتوحة في التعاطي مع الأزمة الخليجية، ولم يعد هناك ما يدعو للدهشة أو الاستغراب مما آلت إليه الأمور في واقعنا العربي المخزي، فهل نستفيق على مصالحة غامضة لا نعرف الثمن الذي دفعه كل طرف لانجازها؟!، خاصة بعد انحياز تركيا للجانب القطري، وفتح إيران ذراعيها للدوحة استثماراً براجماتياً للحدث، ما يخلق نوعاً من التوازن بما لا يجعل”الدوحة” فريسة سهلة، وهو ما لا يسمح أيضاً لطرف بالاجهازعلى الطرف الآخر بالضربة القاضية،وهل يحدث انقلاب ناعم أو خشن داخل النظام القطري، يُدخل المنطقة برمتها في آتون استقطاب حاد وصراع إرادات يفتح الباب أمام مزيد من الانشقاقات داخل البيت الخليجي؟!، بما يهدد بقاءه بالأساس يدفع باتجاه تفكيكه، نتيجة جنوح بعض الأطراف نحو الجنون والفشل في إدارة الخلاف السياسي، في ظل عواصف تعصف بحاضر ومستقبل المنطقة أصلاً منذ سنوات، والأخطر هو ذلك الجرح النفسي العميق الذي خلفته المقاطعة بين الأشقاء يصعب التئامه بعد هذه النقطة السوداء التي دنست تاريخ العلاقات الخليجية،ما يعيد للأذهان عصر ملوك الطوائف في الأندلس قبل سقوطها.